الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

محنة رجل في المنتصف .. د. أيمن محمد الجندي



أن تكون دائما في المنتصف: منتصف العمر، منتصف المذاهب، منتصف الطريق. لا تقوم لك حجة هنا حتى تقوم لك حجة هناك‼، ولا تجد عيبا هنا إلا وجدته هناك‼. صواب هنا وصواب هناك‼، وخطأ هنا وخطأ هناك‼. فيما الناس من حولك واثقون، متحمسون‼. يؤمنون بصواب معتقدهم، ويمتلكون اليقين. ينامون ملء جفونهم، ويذهبون –مطمئنين- إلى نهاية الطريق، فيما أنت دائما في البين بين‼.


هل تعرف -يا مسكين- ماذا يترتب على هذا كله؟:


إنهم جميعا يرفضونك‼.. يكرهونك‼. يتفقون عليك‼.


خذ عندك السلفية. لا تنكر حججهم القاطعة، واهتمامهم بالدليل، بعد إهمال الحواضر له في مصر والشام، ممثلة في خطب جمعة مليئة بالهراء، مسكونة بإرهاب الميكروفون، يحكي الإمام ما راق له، غير عابئ بحر وبرد، وملل وفتور. حكايات فلكورية يتدخل فيها مفهومه الريفي البسيط، دون أن يبالي بثقافة الدليل.


جاء المد السلفي فغير هذا كله، ولم يعد ممكنا أن تسمع رأيا بغير دليل، صار المعلوم من الدين قليلا، لكنه دقيق، مدعم بنصوص قاطعة، واضحة الدلالة.


لكنك رغم إعجابك بهم لا تستطيع أن تمضي معهم إلى نهاية الطريق.. ثمة غلظة، وعنف، وتشدد فيما لا يجب التشدد فيه، مع جرأة غير محمودة تخلع تيارات معتبرة من أهل القبلة من الدين الصحيح. يحتكرون الحقيقة، ويمتلكون الصواب، ويشتطون في تكفير الشيعة، وتبديع المتصوفة، في عنف منقطع النظير.


الفروع عندهم كالأصول، بل إن تقسيم الدين إلى لب وقشور يعتبرونه بدعة، اهتمامهم باللحية والنقاب يفوق اهتمامهم بتزوير الانتخابات، أو سد الفجوة العلمية مع الغرب، أو العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لا يسمحون بتباين الآراء، وكثرت جرأتهم على كل مجتهد مخالف.. الشيخ الغزالي ضال منحرف‼، ووصلت القحة إلى تأليف كتاب عنوانه: إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي!!. أي مخالف لطريقتهم هو علماني على الفور، هكذا دون ضبط للمصطلحات.
والخلاصة أنك معجب بهم، وضائق بهم‼. مقبل عليهم، ومدبر عنهم، لا تغمطهم حقهم ولكنك لا تمضي معهم إلى نهاية الطريق‼.


والصوفية، أهل الزهد والذكر، والخلوة والسكينة. نبلاء عالم الحب، وفرسان مملكة الروح. لا تستطيع أن تكتم إعجابك بالصوفية من حيث هي فرار إلى الله، ورياضة نفسية، وخلاص من ماض أليم، وشحنة من إيمان يخرج بها المريد إلى أيامه القادمة وقد سمت روحه واستنار باطنه.. لا عجب أن كانت الصوفية (وستبقى إلى الأبد) واحة المقهورين وعزاء المعذبين.


لكن المشكلة العويصة أن الصوفية تم تشويهها مثل كل شيء جميل، حتى أصبحت -وأنت المحب لها- غير قادر على الدفاع عنها. خاصمت العقل، تصادمت مع ثوابت الدين، توسعت في المنطق الذوقي، اعتبرت التجربة دليلا على المشروعية، تحولت إلى موالد، وقبور، وبدع، وخرافات، ورايات، وادعاءات، ودفاع عن ممارسات، وهجوم على مخالفين، وهجوم أشد على منافسين.. ونسي الجميع الجوهر الجميل الذي لا علاقة له بهذه الأشياء!. نسوا الذكر والزهد، والطمأنينة والسكينة، والالتحام بالكون والارتماء في أحضان الطبيعة. وانشغلوا بالدفاع بما لا يجب الدفاع عنه، العبء القادم من عصور التخلف وسنين الانحطاط.


تريدهم؟ نعم. تحبهم؟ بالتأكيد. لكنك لا تستطيع أن تمضي معهم إلى نهاية الطريق.


والخلاف السني الشيعي؟ لا شك أنك رفيق بالشيعة، مقدر لحزنهم الكبير، ورغبتهم الخارقة في نصرة آل البيت، بعد تعرضهم لأكبر عملية استنزاف عاطفي في التاريخ، عن طريق استدعاء كارثة كربلاء ليل نهار، بالصوت والصورة، والرواية والتمثيل. لا تكفرهم كما يفعل السلفيون، مقتديا برأي الإمام محمد أبي زهرة، أهم عمامة أزهرية في القرن العشرين، الذي قال في كتابه عن الإمام الصادق: "خلافنا مع الجعفرية خلاف في الرأي والنظر، لا في الدين والعقيدة، لأن اعتقادهم في الإمامة لا يخرجهم من الدين". انتهى.


بل أبعد من ذلك، ربما تشاركهم بعض إحساسهم بالاستفزاز من مبالغة في مديح معاوية‼ وحمية في الدفاع عنه لا تجدها لمصارع آل البيت‼ لكنك رغم إيمانك بقضيتهم العادلة لا تستطيع أن تمضي معهم إلى نهاية الطريق، وتعتقد -كما يزعمون- أن التاريخ مؤامرة، والصحابة نكصوا، وخالفوا عهد رسولهم، واغتصبوا الإمامة من سيدنا علي. لا تستطيع أن تبتلع أن الفاروق -الذي ملأ الأرض عدلا- أجهض الزهراء وقتل بنت نبيه‼. هذا غير سائغ في شريعة العقل قبل شريعة الإنصاف‼ وإذا كان المتحدث مجنونا فليكن السامع عاقلا، ويحكم العقل في ركام المرويات، وأكاذيب تسللت إلى كتب التراث.


كل مشاكل المذهب الجعفري نشأت من نظرية الإمامة، ولو تأملها الشيعة بعقل مفتوح، بعيدا عن الاستنزاف العاطفي، لوجدوها تتعارض مع وضوح مقاصد القرآن الكريم. كيف تكون الإمامة ركنا ثم لا تذكر في القرآن الكريم ولو إجمالا؟. ولماذا يغتصب الفاروق الخلافة ويخالف عهد نبيه، ثم يرتدي خشن الثياب ويأكل الزيت الرديء‼. ولماذا سكت الإمام عن مغتصب حقه، وقاتل زوجته‼. وهو فتى الفتيان وفارس الفرسان، صاحب الشجاعة الخارقة.. كيف يقبل على كرامته كل هذا الهوان؟.


وما شجر بين الصحابة، أنت كذلك في المنتصف. لا تقبل الرواية السنية التي تبسط الأمور، ولا الرواية الشيعية التي تعقد الأمور. الصحابة نقلوا الدين فهم خير البشر. لكنهم بشر‼ ليسوا ملائكة يحلقون في السماء كالحلم السني، ولا كالكابوس الشيعي شياطين يتعاركون في سقر‼ وما شجر بينهم يجب أن يخضع للنقد والتحليل بغير قداسة محرجة ولا تشويه متعمد، لأنها فترة التأسيس التي ترتبت عليها أحداث اللحظة.


يتعامل السنة مع الفتنة بمنطق الأمنيات، وكأنها لم تكن‼ ويستخدمون في تبريرها أساليب مختلفة، فتارة ينهون عن الحديث عنها، وتارة يلصقون كل شيء بابن سبأ، المهم أن يكون العدو من خارجنا. والحقيقة أنه كان صراعا على السلطة، تم استخدام الدين فيه كستار، كما سيحدث بعد ذلك آلاف المرات. والدليل ما حدث بعد رفع قميص عثمان، وحمل المصاحف على الأسنة.. ببساطة حين تسلم معاوية الحكم، لم يعاقب قتلة عثمان، وورثه ابنه، حتى لو كان الملك يمر بذبح آل محمد‼ برغم ذلك وجدوا من يدافع عنهم‼.


الأمور واضحة وضوح الشمس، لا يوجد فيها تلبيس. أراد معاوية الدنيا ونالها، وأراد علي الآخرة ونالها (إن شاء الله).. لكن هذا شيء، وجرأة الشيعة على الشيخين شيء آخر. كيف تطاوعهم قلوبهم على مقت الصحابة، وكراهية أبي بكر وعمر، اللذين بذلا الغالي والنفيس، وحملا العبء في بدء الدعوة، ونشرا الإسلام في الأقطار المجاورة، وأقاما دولة العدل‼ والإمام علي نفسه صلى خلفهم، وتزاوج منهم، وأكل معهم، وصلى عليهم‼. وكيف يحولون الدين لمؤامرة متصلة ثم يطلبون من غير المسلمين الدخول في هذا الدين‼.


هكذا في البين بين، بين هذا وذاك، أنت دائما في المنتصف‼.


وبالنسبة للشأن المسيحي‼ أنت واحد من العقلاء القليلين في بر مصر.. آخر الفصيلة المنقرضة التي تحب المسيحيين، وتحزن للكراهية المتبادلة بينهم وبين المسلمين، في المحروسة التي لم تعد كذلك. وتؤمن بحقهم في اختيار عقيدتهم كما يشاءون، وتبوء المناصب التي يستحقونها على أساس المواطنة، وتحترم تراثهم الروحي البديع في المحبة.. لكنك في الوقت نفسه لا تهضم عقيدة التثليت، التي تنافي الفطرة، والعقل والمنطق، ولا تستطيع أن تقرها، أو تقارنها بالتوحيد الصافي في القرآن الكريم، الصورة المثلى للإله الرحيم، متكامل الصفات، التوحيد الذي لهثت البشرية وراءه، والفطرة المبثوثة في نفوس البشر، منذ عهد الذر القديم.


نفس الموقف مع اليسار، بشكل ما تعتبر كل إنسان "عنده دم" يساريا بالفطرة.. هذا باعتبار اليسار هو الانحياز للفقراء والمهمشين. عسير على المرء أن يقبل أن يقضي إخوانه في الإنسانية رحلة الحياة في فقر وحرمان دون أن يشعر بغصة في قلبه. أنت لا تجد أي مشكلة في التعامل بمرونة مع الفكر اليساري والاقتباس منه باعتباره منجزا بشريا لا يخلو من الحكمة.. حينما يعتبر ماركس الدولة أداة الطبقة العليا في قهر سائر الطبقات فإنك تصغي له، وهؤلاء الذين يتصورون أنها تستطيع القيام بالحكم بين الطبقات أو تنحاز للطبقات الدنيا يطلبون المستحيل‼.


لا شك أن في اليسار أشياء رائعة. لاحظ أن معظم الموهوبين من أهل اليسار، لكنك لا تمضي لهم حتى نهاية الطريق.. المشكلة تحدث حينما تتحول الماركسية من إنجاز بشري لمعتقد‼ أو يتبنى النظرة المادية الجدلية التي لا طائل وراءها، أو يناصب الدين العداء، برغم نقاط الاتفاق المشتركة، لا تكاد تخلو صفحة واحدة من القرآن من الدعوة للصدقة والحث على الإنفاق.. بل وجعل هناك حدا أدنى لا يمكن النزول عنه وهو الزكاة.


حينما يضع اليسار نفسه في صدام مع الدين فهو الخاسر بالضرورة، والعاقل يعرف أن مقدسات الدين خط أحمر لا يمكن تجاوزه.. فهمها نابليون فأعلن إسلامه (ولو كده وكده)، وحفظ هذا الدرس الإنجليز فحكموا البلاد بلا ثورات، عكس الأمريكان الحمقى الذين توالت عليهم هجمات المقاومة.


والخلاصة أنك بسبب البين، ووقوفك عند تقاطع الطرق، صار يهاجمك الجميع، لأنك ببساطة لا ترضي أحدا‼ هؤلاء الذين يريدون الثناء بلا تحفظ، والرضا بغير سخط، ومهاجمة الخصوم بلا توقف. هاجمك السلفيون والصوفيون، والمسلمون والمسيحيون، والشيعة واليسار.. وإن كان السلفيون أعنفهم للأسف‼.


ولو أنصفوا لوجدوا الحياة أكبر من أن تختصر في فكرة واحدة. والبديل هو التعدد واتساع الرؤيا كما تحاول أن تفعل، مستلهما الكون في اعتقادك: تضاريس الأرض المختلفة بين سهول وجبال، وبحار وأنهار، وغابات وصحراوات.. البرد والحر وتنوع الفصول.. بلايين المخلوقات المتنوعة التي تدب على سطح الأرض وتشاركنا رحلة الحياة - كون بأكمله من الكائنات الدقيقة، أجناس لا حصر لها من بني الإنسان، أجرام سماوية بنجومها ونيازكها وكواكبها.


نفس التنوع في عالم الأفكار، تحب في اليسار انحيازه للفقراء، وفي اقتصاد السوق تشجيعه للقوى الكامنة في الإنسان، وفي الليبرالية إيمانها بحق الإنسان في تحديد مصيره، وفي الديمقراطية رفضها لاستبداد فرد، وفي الصوفية عنايتها بالروح، وفي التدين الشعبي حب آل البيت، وفي المعتزلة إيمانهم بالعقل، وفي السلفية اهتمامهم بالدليل. تنوع يضاهي تنوع الكون من حولك في ملكوت السموات والأرض.


لكن السؤال المهم الذي يهمك إجابته هو: لماذا يأبى المجتمع أن يتقبل رجلا مثلك في نصف الطريق؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق